هَلْ يَكُونُ عَاهِلُ المَغْرِب الحَاكِمَ الأَدْهَى فِي العَالَمِ العَرَبِي؟

 

هَلْ يَكُونُ عَاهِلُ المَغْرِب الحَاكِمَ الأَدْهَى فِي العَالَمِ العَرَبِي؟

حين أخطرت أصدقاءً لي في فرنسا بشأن اعتزامي الذهاب إلى المغرب وكتابة مقال حول العاهل محمد السادس، والسياسة الخارجية، بدت أعينهم براقة بجلاء مع صدور كلمة “بطبيعة الحال”. إذ إن الفرنسيين يعشقون المغرب، كما أن عدداً مهماً منهم عاشوا في أماكن مختلفة منه. فبخلاف الجزائر، عومل المغرب كمستعمرة أكثر منه جزءاً من فرنسا. ونال استقلاله عام 1956 في أجواء هادئة نسبيا، لم تذر كثيراً من العداء تجاه الكولونيالية في نفوس المغاربة. فضلاً عن ذلك نهج الملك محمد الخامس سياسة موالية للغرب وشرع أبواب سوق حرة، ثم إن عتماد المغرب على السياحة وتنوعه الثقافي جعلاه يضمن ترحيبيا ذا حفاوة بالقادمين من الخارج.

في الواقع، يمتاز المغرب بسمة رئيسة تكمن في عدم استرعاء انتباه غير مرغوب فيه تجاه البلد. ففي الوقت الذي تغير فيه العالم العربي رأساً على عقب خلال ثمانية عشر شهراً، تخطى المغرب الوضع في لحظة وجيزة ليشرع إثرها في القيام بعملية إصلاح سياسي.

حينما أطالع ما يترجم من أخبار بالعربية لا أجد تقريباً أي شيء عن المغرب، ويكون الحدث في المغرب عادة عبارة عن مهرجان موسيقي. ومرد ذلك إلى أن المغرب لا يحشر نفسه في مشاكل الشعوب الأخرى. وقياسا إلى بلد يضم ساكنة تقدر بخمسة وثلاثين مليون نسمة يبقى تأثيره على دول الجوار محدوداً. فالسياسة الخارجية للمغرب تضع النزاع حول الصحراء فوق أي ملف آخر. وإذا كانت تركيا تنهج سياسة “صفر مشاكل مع دول الجوار” فإن المغرب ينهج سياسة “صفر مشاكل مع الجميع”.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يستطيع المغرب أن يظل في مأمن من طوفان الربيع العربي؟ في هذا السياق قضيت عشرة أيام وأنا اتحدث إلى مسؤولين حكوميين، وسياسيين، وناشطين وأكاديميين، علاوة على رجال أعمال. وسمعتُ كثيراً عن الاستثناء المغربي وعن طريقة ثالثة بين الثورة والجمود. وأنا أتمنى أن يكون ذلك صحيحاً، وآمل أن يكون المغرب بلدا واحداً في العالم العربي قد تحرر دون المرور باضطراب وعنف. وإن كان لدي الكثير مما أقوله حول ما هو آت في الطريق إلا أنه بوسعي الآن أن أقول شيئاً واحداً وهو إنني لست مقتنعاً بشكل تام.

لقد كانت فكرة التحرر الفوقي باراديغماً كبيراً لنظرية التحديث، كما أذاعها كل من صاموئيل هامتنجتون وسيمور مارتان ليبسيت منذ خمسين عاماً. وقد استطاع مستبدون من ذوي الرؤية التطلعية استثمار قوتهم لأجل تعزيز النمو والتنمية أمثال أيوب خان في باكستان أو أوكوستو بينوشيت في الشيلي، إلى حين انبثاق طبقة وسطى تنادي بالحقوق السياسية وتقود الانتقال السياسي.

لقد حدث شيءٌ من ذلك في أماكن عدة سيما في شرق آسيا. ورغم أن المستبدين في العالم العربي كانوا عائقاً أمام التنمية وعطلوا مسألة التحرر لأجل الحفاظ على التوازن مع خصومهم. إلا أن الربيع العربي سار بالأمور على النحو الآتي: مواطنون عيل صبرهم وسئموا الوعود الكاذبة، فقرروا إسقاط حكامهم الفاسدين وغير الآبهين بأي تعاقد اجتماعي، في اقتناعهم بأن الديمقراطية تأخذ ولا تعطى.

وإن لم يكن الأمر كذلك في المغرب، فإنني دهشت من الشراسة التي يؤكد بها المدافعون عن النظام الحالي أن التظاهرات التي عرفها المغرب في وقت مبكر من 2011 في إطار ما يعرف بحركة “عشرين فبراير”، لم تجبر الملك بقدر ما دفعت قدماً بمخططات موجودة سلفاً لإعادة كتابة دستور جديد.

في هذا المضمار تعوز الدلائل بشكل كبير، فحتى وإن لم يكن في نية الملك أي مخطط في يناير 2011. فمن المرجح أنه أراد الاستمرار في “التحديث” دون أن يرخي قبضته المطلقة تقريباً على السلطة، ربما إلى الوقت الذي يصبح فيه المغاربة جاهزين للديمقراطية. لكن ينبغي الإقرار هنا أن مكتسبات السنة الماضية قد أحدثت من طرف القاعدة لا الهرم. وبمجرد الشروع في القيام بهذا، تكون قد شرعت في افتراع ملكية خيرة تمنح السلطة طوعاً لمواطنيها. والأدهى من ذلك أنك تكون قد شجعت المواطنين على المطالبة بالمزيد.

لكن حتى وإن كان الملك قد أرغم حقاً من قبل الشارع، فإنه من المحتمل أيضاً ألا يكون الغضب الشعبي هو السبب الذي دفعه إلى تقديم تنازلات حقيقية بشكل لم يمتلك أي زعيم دولة عربية شجاعة الإقدام عليه. وقد خمدت احتجاجات الربيع في الواقع بعد الخطاب الاستثنائي في التاسع من مارس، الذي وعد فيه العاهل المغربي بإصلاحات حقيقية قبل الإعلان عن دستور جديد في شهر يونيو.

ورغم أن نشطاء حركة العشرين من فبراير يقرون أن تقدير المغاربة الحقيقي للملكية هو الذي حال دون انتشار التظاهرات. فإن الحكومة المغربية التي يتزعمها الحزب الإسلامي المعتدل “حزب العدالة والتنمية” تحاول في الوقت الراهن إيجاد صيغة جديدة للعمل مع القصر.

لم يكن الدستور الجديد مجرد تحرك سياسي على حظ من الدهاء، فرغم ما قد يقال عما يكتنفه من عيوب وتناقضات لا تزال كائنة، إلا أنه وضع رئيس الحكومة مقابل القصر، في تنصيص على اختصاصات الحكومة التي خول لها اتخاذ القرارات فعلياً في كل المجالات الداخلية (باستثناء الدفاع والأمن الوطني)، علاوة على التنصيص على أن البرلمان دون سواه هو الذي يملك دائماً حق إصدار قوانين ( رغم احتفاظ الملك بإصدار ظهائر ضمن مجاله فيما يتعلق بتنظيم الحقلين الديني والعسكري).

ثم إن الوثيقة الدستورية حددت لائحة شاملة للحقوق الفردية، كما هو الحال عليه في أغلب الدساتير الأوربية، مع التزام المغرب بحقوق الإنسان كما تقضي بذلك الأعراف الدولية”.

لقد تركزت أغلب محادثاتي في المغرب حول الكيفية التي تم بها تنزيل الدستور منذ انتخاب حكومة العدالة والتنمية في نونبر الماضي، ووجدت أن هناك انطباعاً لدى شرائح واسعة بأن الحكومة الجديدة التي يقودها عبد الإله بنكيران والمراوغة بطابعها الشعبي، لا زالت تعاني نوعاً من التردد العائد إلى الاحتراس الذي طبع علاقتها منذ سنوات بالمخزن ذي الشبكة الواسعة من السلطة والامتيازات كما هو معروف، فالحزب لم يمرر حتى الآن أي قانون تنظيمي كما يقضي بذلك الدستور، أو تحدى السلطات التقليدية للملك. وأعضاء الحزب يشتكون من تجميد القصر لمجهوداتهم. فالملك يريد الاحتفاظ بحق تعيين رؤساء 37 مؤسسة عمومية بما في ذلك مكتب الفوسفاط، والتلفزيون والإذاعة. في غضون ذلك تسعى الحكومة إلى اقتسام عدد التعيينات بالنصف، وهو أمر هام جدا لاختبار النوايا.

المغرب بلد فقير جدا (أفضل حالاً شيئاً ما من مصر، وأسوأ حالاً إلى حد ما من تونس). ويبدو أن حكومة بنكيران لن يكون بمقدورها أن تغير الشيء الكثير من الواقع. وهو أمر يغذي استياءً كفيلا بإذكاء جذوة العشرين من فبراير. وقد يجد المغاربة ربما أنفسهم في وضع يوازنون فيه بين إجلالهم للملك من جهة والإحباط الذي يطبع مصيرهم من جهة ثانية. وهمم لن يستمروا في الإلقاء باللوم على الحكومة بدلاً من القصر إلى ما لا نهاية، فكلاهما في في حاجة إلى الصبر، لكن ليس من الواضح كم سيكون لهما منه أو القدر الذي يستحقانه.

 

Comments are closed.