لهذه الأسباب لم تعتذر إسبانيا للمغرب بشأن حرب الريف

 

لهذه الأسباب لم تعتذر إسبانيا للمغرب بشأن حرب الريف

يحيا الجيش الاسباني الذي يعرف كيفية استعادة بلدة الغوروغو وغيرها من المدن يعرف كيفية معاقبة المورو هذا المورو الرجيم الذي يخدعنا دائما وسوف نعطيه عقوبته من أجل بلدنا-1

لا زال لهذه القصيدة ـ التي كتبت منذ ما يقرب من 90 عاماً، بعد هزيمة الجيش الاسباني في معركة أنوال في 22 يوليو عام 1921 ـ صدى كبيرا في الوقت الحاضر في الذاكرة الجماعية للشعب الإسباني، خاصة بالنسبة للطبقة التابعة للحزب الشعبي المحافظ.

وبينما بعض القوى الاستعمارية السابقة، (كما هو الحال بالنسبة لإيطاليا مع ليبيا) قدمت اعتذاراً رسمياً لشعوب مستعمراتها السابقة عن الانتهاكات التي رتكبتها ضدهم، وعن استغلال ثرواتها الطبيعية، لا زالت بعض الجهات المحافظة في إسبانيا تشعر ببعض الحنين تجاه احتلالها واستغلالها الشنيع لشمال المغرب من 1912 حتى 1956، ولجنوب المغرب من 1884 حتى عام 1975.

إسبانيا لم تمتنع عن الاعتذار رسمياً للشعب المغربي فحسب، على الرغم من الدراسات التي أظهرت الآثار الكارثية لوجودها في المغرب، واستخدامها للغازات السامة ضد سكان الريف في أعقاب معركة أنوال، بل إن بعض قادتها، لا سيما أولئك الذين ينتمون إلى الحزب الشعبي الحاكم، يستغلون أية فرصة أتيحت لهم لمدح شجاعة الجنود الذين قاتلوا ضد المغاربة إبان تواجد اسبانيا في المغرب.

لقد صُدم معظم المغاربة عندما قرؤوا في الأخبار أن وزير الداخلية الاسباني خورخي دياز فرنانديز، أعرب، خلال زيارة قام بها الى مدينة مليلية المحتلة قبل عشرة أيام، عن إعجابه بالجنود الاسبان الذين قاتلوا ضد المغاربة خلال حرب الريف بين 1921 و 1926، وخاصة خلال معركة أنوال.

يكفينا أن نقرأ الطريقة التي صورت من خلالها كتب التاريخ الإسباني علاقات إسبانيا مع المغرب ووجودها الاستعماري في هذا الأخير، لنفهم إلى أي مدى يمثل الامتنان الذي أعرب عنه الوزير إسباني تجاه الجهود الإسبان نظرة الأغلبية الساحقة للإسبان لهذه الفترة من تاريخ علاقات بلدهم مع جاره الجنوبي.

وما يميز الطريقة التي تعاملت من خلالها الكتب المدرسية والتاريخية الاسبانية مع هذه العلاقات هو أن الإسبان لم يلحقوا قط أي ضرر بالمغرب، وأن المغاربة هم الذين كانوا يتسببون دائماً في إلحاق الضرر بجيرانهم الشماليين. ومن بين الأمثلة التي تستشهد بها الكتب المدرسية الإسبانية لإثبات ذلك الهزيمة الساحقة للجيش الاسباني في معركة أنوال في يوليو عام 1921، فضلا عن مشاركة المغاربة في الحرب الأهلية الاسبانية (1936-1939).

هزيمة الجيش الاسباني في معركة أنوال: كل الوسائل مباحة لمعاقبة المغاربة “المتعطشين للدماء”

وتسببت الهزيمة المفاجئة التي لحقت بالجيش الاسباني في معركة أنوال ضجة كبيرة في المجتمع الإسباني، فمنذ أوائل القرن العشرين، لم يتوقف المجتمع الاسباني عن التعبير عن معارضته للسياسات العسكرية التي ينتهجها قادته في المغرب.

فعلى الرغم من كل الجهود المبذولة من قبل الجيش الإسباتي “لبيع” صورة جيدة عن العمل الذي يقومون به للحفاظ على المصالح الاستعمارية لبلدهم في المغرب، فإن جنوح الرأي العام الإسباني لمعارضة النزعة العسكرية للحكومة الإسبانية، حرم هذه الأخيرة من القاعدة الشعبية التي تحتاجها لتنفيذ سيطرتها في المغرب.

وعلى ضوء هذه المعارضة للسياسات العسكرية التي كانت تنتهجها القوات الحكومة الإسبانية في المغرب، كان لأي خطوة خاطئة من قبل الجيش الاسباني أن تلقي استنكار الرأي العام الإسباني وبالتالي، أن تتسبب في ارتفاع حدة معارضة المجتمع الإسباني للتدخل العسكري في المغرب.

ومع ذلك، وفي أعقاب الهزيمة المفاجئة للإسبان في معركة أنوال، ونظرا لطبيعة العدو الذي كان يواجه الجنود الاسبان، عرف قادة الجيش الإسباني كيف يستغلون الصورة النمطية السوداوية للمغاربة في إسبانيا لوضع حد لمعارضة الرأي العام لسياستهم العسكرية في المغرب، وكسب تعاطفه ودعمه في الحرب التي كان يقودها الإسبان ضد عدوهم التاريخي.

وتحقيقا لهذه الغاية، كان للمسؤولين العسكريبن، والأحزاب السياسية ووسائل الإعلام المحافظة، المؤيدة لمواصلة الحرب ضد “المورو”، هدف مشترك يتمثل في جعل الرأي العام يُسلم ويقتنع بأن القسوة والغدر المزعوم للمغاربة هي الأسباب الرئيسية الكامنة وراء المأساة التي لحقت ببلدهم.

ولتحقيق هذا الهدف، كانت الخطوة الأولى التي يجب أخذها هي تحديث الصورة المرعبة التي تناقلتها الأجيال الإسبانية عن المغاربة. ولقد كانت مهمة القادة العسكريين وصناع الرأي جد سهلة، إذ كان هؤلاء على بينة من الصورة التي لا يُحسد عليها للمغاربة في إسبانيا، وأن الحملة التي كانوا سيطلقونها لتشويه سمعتهم سوف تجد صدى إيجابي لدى الرأي العام الإسباني، الذي بُنيت ذاكرته الجماعية على أساس العداء للمغرب.

وللحصول على التضامن المطلق للرأي العام، عملت الآلة الدعائية الإسبانية عل الترويج للكثير من الصفات باعتبارها من بين المكونات الأساسية لشخصية المغاربة. ومن بين هذه الصفات المزعومة، تم التركيز على كون أن المغاربة “جشعين” و”متعطشين للدماء” ومشبعين بروح “الخيانة” و”النفاق” والجبن “.

ووفقاً لهذا الوصف المخادع، عكف المغاربة على اغتنام كل فرصة لخيانة “أسيادهم” وأخذهم على حين غرة. وللتأكيد على الجبن المزعوم للمغاربة وميلهم للغدر، روجت الآلة الدعائية العسكرية الإسبانية لفكرة أخرى مفادها أن المغاربة كانوا يفضلون مفاجأة الإسبان من الوراء.

وكلما كثرت الأخبار بخصوص العدد الكبير من الضحايا الاسبان الذين سقطوا في بداية حرب الريف، كلما ازداد الرأي العام الاسباني اقتناعاً بأن الثمرة الوحيدة التي جنتها بلادهم من تغلغلها العسكري في المغرب هي مقتل عدد كبير من جنودها. وقد نما اليقين لدى الإسبان بأن هذا البلد أصبح مقبرة اسبانية، خاصةً بعدما قامت الصحافة بإظهار بعض الصور التي التُقطت في موقع الأحدات، كما استُخدمت الرسوم الكاريكاتورية لإظهار المأساة التي حلت باسبانيا وما كان ينتظر الاسبان في المغرب.

وكانت السمة المشتركة لهذه الصور والرسوم كونها تربط المغرب بموت ومعاناة الاسبان. وفي الوقت الذي كانت تروج فيه الآلة الدعائية الإسبانية للوحشية المزعومة للمغاربة، لم تقم في أي لحظة إلى التطرق إلى المعاملة القاسية للإسبان مع المغاربة القابعين تحت الاحتلال الإسباني، ولا للإهانات التي كانوا يتعرضون لها بشكل يومي من طرف الجنود الإسبان.

ولم تكن هذه المعلومات المتداولة في إسبانيا حول الوحشية المزعومة للمغاربة لتترك المجتمع الاسباني غير مبال بما وقع لجنوده في شمال المغرب. على العكس من ذلك، لعبت دوراً محورياً في جعل الرأي العام يغير موقفه المعادي لعسكرة تدخل بلادهم في هذا البلد، وإظهار تضامنه المطلق مع الجنود الإسبان في محنتهم. وبالتالي، بينما أظهر المجتمع الإسباني في أوائل القرن العشرين مناهضته المطلقة لعسكرة التدخل في المغرب، دفعت به الصدمة الناجمة عن كارثة معركة أنوال إلى إظهار عزمه على الثأر لأرواح مواطنيه.

وقد قام بعض الكتاب الذين لم يسبق لهم أن زاروا المغرب بالمبالغة في مدى قسوة المغاربة والأضرار التي ألحقوها بالجنود الإسبان، إذ أطلقوا العنان لمخيلتهم لتسليط الضوء على”وحشية” المغاربة وتعطشهم للانتقام.

وكان الهدف الأساسي من هذه الطريقة التي تم من خلالها الحديث عن حرب الريف التأثير على وجدان الرأي العام لإيقاظ حسه الوطني وجعله يتضامن بشكل كلي مع جنوده الذين “تعرضوا للإساءة” على يد العدو التاريخي لإسبانيا. وقد بلغ سخط واستياء الرأي العام ذروته، إذ بالإضافة إلى كون أن المغاربة ألحقوا بالجيش الاسباني أضرار جسيمةً وخسائر كبيرةً في الأرواح، قام البعض منهم بتشويه جثت بعض الجنود وقطع رؤوسهم. وقد أدت هذه الأعمال الوحشية، التي تناقلتها الصحافة الإسبانية، إلى إنتاج عدد كبير من القصائد والأغاني التي سلطت الضوء على خيانة المغاربة وميلهم لتدنيس جثت الجنود الإسبان.

وفي ظل شعورها القوي بالرغبة في الانتقام، أظهرت جميع مكونات المجتمع الاسباني دعمها الثابت للجيش، وأشادت بشجاعته وأعطته الدفعة المعنوية التي كانت في حاجة إليها في حربه ضد المغاربة. وظل هذا الدعم راسخاً لدرجة أنه لم يتم في أي وقت من الأوقات آنذاك انتقاد الأساليب المستخدمة من قبل الجنود الاسبان (تدمير قرى بأكملها، وسياسة الأرض المحروقة والإنتهاكات الجسيمة ضد المغاربة، سواء كانوا مقاتلين أو مدنيين، واستخدام الغازات السامة دون تمييز ضد السكان من أجل القضاء على مقاومتهم) أو التشكيك في مدى جدواها، لأن الشعب الاسباني كان يريد بكل بساطة أن يقوم جنوده بفرض عقاب جماعي ضد المغاربة، بغض النظر عن الوسائل المستخدمة لتحقيق هذا الهدف.

والأسوأ من ذلك أن عمليات قطع رؤوس المغاربة وتشويه جثتهم وأعضائهم التناسلية أصبحت من الممارسات الأكثر شيوعاً في صفوف الجيش الاسباني، لدرجة أن بعض الجنود الإسبان ذهبوا إلى حد تقديم رؤس أعدائهم كهدايا لذويهم. ففي هذه الأجواء المليئة بمشاعر الانتقام، لم يكن من المفاجئ أن يرى المرء صوراً تُظهر أن واحداً من أفراد الجيش الإسباني قدم لخطيبته أو أحد أفراد أسرته هدية على شكل رأس أو أذن مغربي.

فعلى سبيل المثال، كما يتضح من خلال هذا المقطع من كتاب الباحث الإسباني Manuel Leguineche، نشرت يومية El Sol في شهر أكتوبر 1921 خبراً مفاده أن دوقة (نبيلة) اسبانية استلمت هدية على شكل سلة من بعض الجنود الإسبان، كان بداخلها رأسان مغربيان:

“استلمت هذا الصباح دوقة فيكتوريا سلة من الورود، في وسط السلة كان هناك رأسان يلمعان، وهما من أجمل المئتي رأس التي تم قطفها أمس”2.

وبالنظر للطريقة التي تعاملت بها الكتب المدرسية ووسائل الإعلام الإسبانية مع تاريخ العلاقات بين المغرب وإسبانيا، سيكون من الصعب تصور أن يقوم الساسة الإسبان بالإعتذار عما اقترفه جيشهم الاستعماري في حق المغاربة في منطقة الريف. كيف ذلك ومعظم هؤلاء الساسة تشبعوا بالأفكار التي تربي فيهم الحقد على المغاربة، والنظرة إليهم بأنهم خصوم بلدهم، وأنهم كانوا دائماً أسباب المشاكل والمآسي التي لحقت بهم؟

إن تصالح إسبانيا مع تاريخها في المغرب وقبولها بفكرة الإعتذار للشعب المغربي لن تتأتى إلا إذا ما حصل تغيير تدريجي على المناهج التعليمية للجارة الشمالية، وتمت إعادة النظر في الكثير من الأفكار المغلوطة التي تروجها هذه المناهج التعليمية بخصوص تاريخ العلاقات بين الشعبين المغربي والإسباني.

 

Comments are closed.