صرخة غارودي الأخيرة: رأسمالية تقودنا نحو “الانتحار الكوني”

 

صرخة غارودي الأخيرة: رأسمالية تقودنا نحو “الانتحار الكوني”

“اللقاء بالمفكر الفرنسي، الراحل روجي غارودي ليس بالأمر الهين، إذ إن المرء سرعان ما يجد نفسه أمام رجل إشكالي، ترك بصماته الواضحة على عصره”. هكذا أوجز الكاتب والصحافي العراقي شاكر نوري زبدة كتابه الذي يحمل عنوان: “روجي غارودي: هذه وصيتي للقرن 21″، والصادر عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” البيروتية. (والمؤلف للتذكير، حاصل على دكتوراه في الإعلام والدراسات السينمائية والمسرحية من جامعة السوربون).

جاء الكتاب موزعا على فصلين اثنين، حيث خصص الأول لمجموعة من الحوارات التي تستعرض آراء غارودي في قضايا الساعة، ومنها الوجود الأمريكية في العراق، وتفكيك شعارات “نهاية التاريخ” و”صدام الحضارات”، و”حروب الثقافات”، كما يعرج على نقد السياسات الغربية اتجاه الدول العربية والإسلامية، واتجاه دول العالم الثالث. أما الجزء الثاني من العمل، فقد استعرض فيه المؤلف تفاصيل دقيقة حول محاكمة غارودي بسبب كتابه الشهير الذي أحدث ضجة إعلامية وسياسية في فرنسا، ونتحدث طبعا عن كتاب “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية”.

يهمنا أكثر التوقف عند بعض حيثيات الجزء الأول، حيث الترحال الممتع مع جرأة مشهودة لغارودي، وبداية، يرى بأننا نعيش “زمن الحروب الدينية”، والدين هنا ليس أي من الديانات التوحيدية الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام، وإنما “دين وحدانية السوق”، حيث هناك إله واحد، وهو الدولار، والذي يشرعن شكلا جديدا من الاستعمار.

فالولايات المتحدة تفرض سياسة “ديانة السوق التوحيدية”، وتتحكم هذه الديانة في كل العلاقات الاجتماعية، وهي التي تقف وراء خلل هذا الخلل الرهيب في سوء توزيع ثروات العالم، حيث تجمع الإحصاءات على أن حوالي 20 في المائة من السكان يسيطرون ويستهلكون 80 في المائة من ثروات العالم. أما العولمة، فليست سوى شكل من أشكال الاتحاد العالمي، مع فارق أن الخطوط العريضة لهذا الاتحاد تضعه الولايات المتحدة الأمريكية، ولذلك يجب وصف العولمة بأنها نظير للأمركة.

ولذلك، كان مصيبا على ما يبدو عندما اعتبر أن الحدث الأكثر دلالة في أواخر القرن العشرين ليس تفكك الاتحاد السوفياتي، أو تفكك “النموذج الكاريكاتوري للاشتراكية والماركسية”، وإنما إفلاس الرأسمالية بعد هيمنة دامت نصف ألفية على العالم، وهي ما تزال تقوده في سباقها المحموم نحو الموت، ونحو “الانتحار الكوني”.

ومن أجل معرفة حجم مهمة تفكيك هذه الفلسفة الاستعمارية، يكفي أن نقوم بجردة حساب للقرن العشرين، ولا تشمل هذه الجردة حروبه فقط التي أدت إلى 11 مليون قتيل في الحرب العالمية الأولى و50 مليون قتيل في الحرب الثانية، من أوشفيتس إلى هيروشيما، ومن الجزائر إلى رواندا، ومن لبنان إلى فلسطين، ومن العراق على كوسوفو، وإنما تضم أيضا ضحايا المجاعات والأوبئة، ومع تأمل طبيعة أكبر الجرائم التي ارتكبت في التاريخ، يتبين أن البؤس والمجاعة قتلا أكثر من الحروب، والأدهى، أن نموذج النمو والتطور في الغرب يكلف بقية أنحاء العالم، من خلال تعميم سوء التغذية والمجاعة.

فالذين أبيدوا في أعمال السخرة والأوبئة في أوروبا أكثر مما أبيدوا بالسلاح، حيث قتل 100 مليون إفريقي من أجل نقل ما يتراوح ما بين 10 و20 مليونا من العبيد إلى أمريكا، وحسب إحصاءات نشرتها منظمة “اليونيسيف”، وتخص عام 1993 في تقرير جاء تحت عنوان “تقدم الأمم”، فإن 13 مليون طفلا تقل أعمارهم عن خمسة أعوام يموتون سنويا في العالم، بسبب المجاعة وسوء التغذية والأمراض التي يسهل علاجها، والسبب في ذلك، مرتبط أساسا بفرض نموذج التطور الغربي على الشعوب الأخرى.

والخلاصة، أنه إذا استمرت الأوضاع على هذا المنوال، فإننا نتجه مباشرة نحو “الانتحار الكوني”، سواء من خلال ثورة الضحايا واضطهادهم الدموي أو من خلال إفقار الطبيعة وتلوثها. وقد اتضح أن التخلف ما هو إلا نتيجة ضرورية للتبعية الاستعمارية التي تتجسد حاليا في صورة الهيمنة الأمريكية.

أما عما يحتاجه العالم في القرن الجديد فيشير غارودي إلى أننا أكثر حاجة أكثر من أي وقت مضى لصعود جديد للإيمان لا يعمل على تحريك الجبال فحسب بل يحمل الأرض بأكملها على أكتافه، من أجل التصدي للفلسفة المدمرة، عبر يقظة الإنسان ضد الحياة الخالية من المعنى، والمتمركزة على سلطة المال، وقد بدأت تسري هذه اليقظة في أغلب قارات العالم، سواء في “لاهوتيات التحرير” في دول أمريكا الجنوبية والوسطى، أو في اليقظة الإسلامية، شرط أن تبتعد عن الأصولية والتشدد والتطرف الإسلامي الذي يشوه الصورة الحقيقية للإسلام.

الحديث عن الصورة الحقيقية للإسلام، يحيلنا على موقف غارودي من مستقبل الإسلام، ويرى في هذا الصدد أن ذلك يعتمد على طريقته في التأسيس لحداثة خاصة به، (في تقاطع ملفت مع أطروحة الفيلسوف المُجدّد طه عبد الرحمن، والذي يرى في كتابه “روح الحداثة” أن “واقع المجتمعات الإسلامية هو إلى الحداثة المُقلِّدة أقرب منه الحداثة المبدِعة”، ويرى من ناحية ثانية أن “الحداثة لا تُنقل من الخارج، وإنما تُبتَكر من الداخل”).

فيما يتعلق بأسباب تراجع دور المسلمين اليوم، يوجز غارودي أهم أسباب ذلك، على الأقل في القرن الثاني عشر، إلى ثقل أسباب خارجية، ومنها سحق أكبر مركزين من مراكز إشعاع الثقافة الإسلامية، وهما بغداد وقرطبة، عندما استولى حفيد جنكيز خان على بغداد عام 1258، كما استولى فيرناند كاستيل الثالث على قرطبة عام 1236، دون أن يقزم من أسباب ذاتية، ساهمت في انطفاء روح الإبداع العلمي تولدت من الداخل وجاءت من التقليد والانطواء على الذات والعزلة والاكتفاء.

وأخيرا، يشن غارودي هجوما لاذعا على التلفزيون، في برامجه السياسية والإشهارية على الخصوص، متهما إياه أنه يمارس سلطته وتأثيره البديهين، ولا يضاهيه في هذا التأثر على العقليات والسلوك حتى العائلة والكنيسة والمدرسة. وبالنسبة لفلسفة الإشهار التي تبثها القنوات الفضائية، يرى غارودي أنها لا تخرج عن الخضوع إلى قوانين وحدانية السوق التي تنظم قوانينها وتتحكم فيها الولايات المتحدة الأمريكية، منددا بثقافة العنف والسادية، موردا مثالا دالا وساخرا في أن: “إذا كنت تحب زوجتك، فهذا لا يعني أحدا ولا يهمه أمرك، أما إذا أقدمت على قتلها فيصبح ذلك حدث اليوم الذي يتسلل إلى صفحات الجرائد، ويستحق 72 ثانية في نشرة الأخبار، وإذا قطعت أوصالها إلى أجزاء، فذلك سيسحق ثلاث دقائق، وفي حال ما إذا قمت بأكلها كما يفعل ياباني في باريس، فهذا هو قمة الحدث”.

ما أحوج المتلقي الكوني إلى نصائح الراحل غارودي في هذا العمل، وأعمال أخرى بالطبع.

 

Comments are closed.